عبد الزهرة عبد الحسين، فلاح عراقي (حديقجي)، في الستين من عمره، يكنى بأبي عواد، قليل الكلام، ولكن عندما يتكلم يتقطر فلسفة وحكمة.
دخل العام المنصرم، في مناظرة مع أدورد جيرجيان، السفير الامريكي، الذي ترأس لجنة لدراسة اسباب كره العالم لأمريكا. وقد سبق السفير جيرجيان في تشخيص الاسباب، بأكثر من ثلاثة أشهر.
حلمت ذات يوم، أن عبد الزهرة جاء كعادته ليتفقد حديقة الدار في بغداد المذبوحة. بعد السلام والكلام سألته، كيف الامور؟ نظر الي نظرة غريبة وبعيون حزينة دامعة قال: مثل ماترى. . . الناس سكارى وما هم بسكارى، الامور تسوء أكثر فأكثر، الامريكان يلعبون بالبلد شاطي باطي، يقتلون ابنائه ويستحيون نسائه ويعذبون سجنائه بما يندى له جبين البشرية، حتى أن العار بات يخجل منهم. والغريب ان كل ذلك يحدث بأسم الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان. أما العرب والمسلمون نائمون، يمدون خنصرهم من تحت الغطاء فيبصمون!!!
راود نفسي، أن أبي عواد، مهموم هذا اليوم. تركته يعمل في الحديقة كعادته، لاحظته يلامس الاشجار لمس المحبين، ويحنوا على الازهار كأنها طفله الرضيع. عبد الزهرة يعشق رائحة الارض، في بعض الاحيان يرفع كومة من التراب، يقبلها ويشمها كانه يقبل أمراته أم عواد. باختصار انه عاشق الارض والاشجار والزهر.
تركته في شأنه. دون ابداء اية ملاحظة، لأنه يصبح ليثا ضاريا اذا تدخل احد في عمله. ولكن هاجسا دفعني لأستكشف عن همومه. أسترقت السمع دندنته مع نفسه، كانه ينفث حكمة قرون من الزمان. تسللت خلسة ووقفت خلفه. سمعته يقول بلحن الابوذية:
حال العرب، حال الضيم حالهم، مشتتوا الاوصال، مكسوروا الجناح، تتقاذفم الانذال والاوغاد، تلف سمائهم غيوم قاتمات سوداوات. كلما رافقت الملائكة قوافل شهدائهم الابرار الى السماوات العلى، يزدادون تنكرا لهم. بالامس أرتفع شيخ الشهداء أحمد ياسين، الى العلى، وأنخفض أعدائه المجرمون الى الدنى، ثم زفت فلسطين، عبد العزيز الرنتيسي الى السماء. تحول ليلهم بهيما مدلهم الظنون.
وراح هزيعهم يلقى هزيعا
وظلامهم يلتهم ظلاما،
أرقت فلسطين لاتذوق أمانا
وأرق العراق لايذوق مناما.
يزُفان الشهداء الى السماء
قوافلا تتبعها قافلة
ليرتفعوا مقاما
فلا يسقط منا شهيد، الا ورفع الراية صنديد
يدق في عيون الاعداء مسمارَ.
أننا لانشتكي ولا نندب حظا
ولا نهرق الدموع أنهارً،
ثم انحدرت دمعتان ساخنتان من مقلة عبد الزهرة، كلهيب النار، حسبت انهما ستحرقان خداه. تحاشيت النظر الى عينيه. سمعته يستأنف القول بحسرة الولهان:
الى متى. . . . . . يأمة العرب. . . . الى متى
تضحك من جهلك وهوانك الامم؟
تدك الصهاينة والامريكان بيوتنا فوق رؤس أطفالنا دكا دكا؟
يهينك الانذال و تدفنين رأسك في الطين والرمال رويدا رويدا؟
تنشدين السلام، وقد أعلنوها، حربا تتبعها حربا؟
الى متى يأمة العرب:
يذبح أطفال العراق، كل يوم ألف مرة، وأنت في نشوة تسكرين وفي غيك تعمهين؟ يتساقط الشهداء في اولى القبلتين و في الفلوجة الصامدة والكوفة الباسلة وأنت تتفرجين، كالمخبول تترنحين؟
الى متى، يستيقظ اطفالنا على هدير الصواريخ وأزيز الطائرات وأنت تبتسمين ولا تبالين؟
الى متى، يا أمة المحبة والاخوة والشهامة، تشاهدين كل هذه الموبقات، لاتثورين ولا تنتفضين؟
الى متى، يبقى الجزار يقطع أوصالنا من المحيط الى الخليج وأنت من الخوف ترتجفين؟
الىمتى، نأكل الخبز المغموس بدم الاطفال والعذارى وأنت تنامين ملىء جفونك ولاتستيقظين؟
ألم تحرك فيك، مجزرة الفلوجة والكوفة ومأساة أبي غريب ذرة نخوة، لتشقي عنان الخوف و أستار الهوان تمزقين؟
الى متى ننظم الشعر ونكتب وتقطعين لساننا وتبترين أصابعنا؟
الى متى تعيشين في دياجير الظلام ولا تمزقين الستار؟
متى سينجلي هذا الليل البهيم؟
متى ستنقشع هذه الغمامة السوداء الممتدة من البحر الى البحر ومن النهرالى البحر؟
متى سيذهب اطفالنا الى مدارسهم ببسمة ويعودون بضحكة ويطبعون على كتبهم قبلة المحبة؟
متى سيقرأ الناس الاشعار والاسفار دون وجل؟
مسد عبد الزهرة وردة، أنه لايقطع الزهرة. يمسدها يغني لها مقام الصبا. أن الازهار والاشجار في الحديقة تتألم بألم اصحابها وتحزن لحزنهم. لاأدري من اين استقى هذه الحكمة. نظر اليُ نظرة، تقدح منها الالاف الاسئلة، وقال:
الى متى، نذهب الى البيت الابيض ونعود سود الوجوه؟
الى متى، يضلون يضحكون علينا ملىء اشداقهم بأسم حسن النية؟
الى متى، يملئون أذاننا كذبا ونفاقا ونظنه وعدا والتزاما؟
الى متى، يقنعوننا بمعسول الكلام، ثم يدقون في أجسادنا خازوقا؟
الى متى، نعقد المؤتمرات ونتراشق بالعكل وبذيْ الكلام وتسخر منا حثالات الامم؟ الى متى، نستورد سراويلنا الداخلية وشماغنا من انكلترا وسويسرا؟
الى متى، يضربوننا بالنعال ونستجدي المزيد ونحن منبطحون مستبشرون؟
الى متى، يشتموننا ونقول لهم كلامكم عسل، وبين الاحباب تسقط الاداب؟
الى متى، تودعنا امهاتنا في الصباح الوداع الاخير؟
الى متى، نذهب لصلاة الفجر لتعود جثثنا، تقطعت أربا أربا؟
الى متى، تظل قافلة الشهداء في الفلسطين والعراق تسير ووطنك أسير؟
الى متى، نشرب الماء وعيوننا معلقة في السماء، خوفا من صاروخ غادر أو رصاصة قناص أثيم؟
الى متى، نشدوا على الاطلال أغنية الحزن والبكاء والعويل ولانغي للوردة والشمس والاقحوان؟
الى متى، يذبح الانسان على أرضنا ذبح النعاج و البعير؟
الى متى، ننادي الكرسي أولا والكرسي ثانيا والكرسي ثالثا ثم ننقله الى أولادنا ومن بعدهم الى أحفادنا بعد تزوير الدساتير؟
الى متى، يصيح الخروف في البرلمان ماع، و يرجع الصدى الف ماع وماع؟
الى متى، نظل غرباء في أوطاننا، منبوذون في مدننا، مكروهون في قرانا، حائرون في بيوتنا الخالية حتى من اقراص خبز الشعير؟
الى متى، يزورنا زوار الفجر الغلاظ الشداد، كأن بيننا وبينهم ما صنع الحداد؟
الى متى، نخاف من الوردة و الفراشة، ونرتعد من وهج القلم؟
الى متى، نكذب حتى في صلاتنا؟
سكت عبد الزهرة عن الكلام المباح، وأخذ يقلب التراب، خرجت من مساماتها الديدان تتموج بدلال، اعادها الى التربة، وقال انها بلسم التراب. رفع رأسه الى السماء، كأنه يناجي صاحب عرش السماء وقال:
الى متى، يلبس الجلادون رداء الدراويش؟
الى متى، يفتي المفتون و لايصدقون مايقولون؟
الى متى، يظل حكامنا يقولون ما لايفعلون ويظهرون ما لايبطنون؟
الى متى، يبني حكامنا، بينهم وبين شعوبهم، سد يأجوج ومأجوج؟
الى متى، يظل حكامنا يكرهون شعوبهم ويحبون أعدائهم؟
الى متى، يغوص المجرم السفاح شارون في دماء الابرياء ويتوج بطلا للسلام؟
الى متى، يكذب بوش والعالم يقول أمين؟
الى متى، نتلقى أهانة الانذال ونقول هذا من كرم الاخلاق؟
الى متى، يمسخون ملامحنا ونقول انما هذا من متطلبات العولمة؟
الى متى، يذبحوننا ولايسمحون حتى بدفن شهدائنا وتضميد جرحانا؟
الى متى، تتحول ملاعب الاطفال الى مقبرة للشهداء؟
الى متى، تهدم المساجد باسم محاربة الارهاب؟
الى متى، نحاصر ونجوع ونذبح، ويقول لنا حكامنا، أصبرو أن الله مع الصابرين!! ولايعلمون أنه قد طق من صبرنا الصبر!!!
الى متى، نستورد السلاح ولانستعملها الا لذبح أبنائنا أو للتباهى أمام القبائل؟
الى متى، تبكي الازهار والاشجار في بساتيننا عطشى، ويسبح حكامنا في اللبن الممزوج بالعسل؟
الى متى، يمزق الانسان في الجزائر؟ ويصلب في السودان؟ ويقطع أربا أربا في العراق؟ وينثر أشلائه في فلسطين؟ ويحنط في أرض الكنانة؟
الى متى، يبقى الفلاح في قرى الصعيد الاشم يغمس رغيفه بالدم ويبث وجعه للظلام؟ الى متى، يجف الزيتون والليمون على الاشجار طولكرم؟
الى متى، تمرق الخادمات الفليبينيات من المطارات العربية كالسهم، ويبهدل العربي ويلعن فيها سنسفيل أهله؟
الى متى، نسمع النفاق وكيل المديح وعزف الاغاني النشاز للاب القائد وبطل الامة وباني الاوطان وهو يعمدنا بالدم ليل نهار؟
الى متى، يبقى حاكمنا فرعون وقاضينا سرسري؟
الى متى، يهذي القائد ونحسب هذيانه من درر الكلام؟
الى متى، تضيع خيراتنا وأموالنا وتتبعثر على موائد القمار وبغايا أوروبا؟
الى متى، يحرق اللصوص والحرامية الاخضر واليابس من أجل بقائهم في السلطة؟
الى متى، نعتبر الاحتلال تحريرا والتدمير أعادة أعمار والمقاومة ارهابا؟؟
الى متى، يخون الامين ويؤتمن الخائن، يصدق الكاذب ويكذب الصادق؟
الى متى، نبجل العميل ونحقر الامين؟
الى متى، تتكلم الرويبضات وتنعق الغربان ويخرس الاشراف؟
الى متى، تبقى فلسطين مغتصبة والعراق محتلا ولايهتز شارب أحد؟
الى متى، أيتها الامة لاتنتفضين من سباتك ولاتستيقظين؟؟
فوالله لو لم تستيقظي وتنتفضي، سيأتي يوم، يفرضون فيه عليك ما تأكلين وما تلبسين، و ما تفكرين و ما تعبدين!!!!!
الى متى يأمة العرب، يبقى البعير على التل؟
هل عقمت رحم النساء من أنجاب الراعي؟ قبل أن ينفق البعير ويشتد الصراخ والعويل؟
الى متى يبقى البعير على التل؟ الى متى؟. . . . . .
وسمعت صراخ عبد الزهرة يشق عنان السماء. . ويصيح
فهل من مجيب؟
وأنتفضت من الفراش مذعورا، وقلت اللهم آمين.